سورة الكهف - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الكهف)


        


{وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ} وقرئ بالياء التحتانية {فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ} يقدِرون على نصره بدفع الإهلاكِ أو على رد المهلِك أو الإتيانِ بمثله، وجمعُ الضميرِ باعتبار المعنى كما في قوله عز وعلا: {يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ} {مِن دُونِ الله} فإنه القادرُ على ذلك وحده {وَمَا كَانَ} في نفسه {مُنْتَصِراً} ممتنعاً بقوته عن انتقامه سبحانه.
{هُنَالِكَ} في ذلك المقامِ وفي تلك الحال {الولاية لِلَّهِ الحق} أي النُصرة له وحده لا يقدِر عليها أحدٌ فهو تقريرٌ لما قبله، أو ينصُر فيها أولياءَه من المؤمنين على الكفرة كما نصر بما فعل بالكافر أخاه المؤمنَ، ويعضُده قوله تعالى: {هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} أي لأوليائه، وقرئ: {الوِلاية} بكسر الواو ومعناها الملكُ والسلطانُ له عز وجل لا يُغلَب ولا يُمتَنع منه أو لا يُعبد غيرُه كقوله تعالى: {وَإِذَا رَكِبُواْ فِى الفلك دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} فيكون تنبيهاً على أن قوله: يا ليتني لم أشرِك الخ، كان عن اضطرار وجزَعٍ عمّا دهاه على أسلوب قوله تعالى: {ءالئَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ المفسدين} وقيل: هنالك إشارةٌ إلى الآخرة كقوله تعالى: {لّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} وقرئ برفع الحقِّ على أنه صفةٌ للولاية وبنصبه على أنه مصدرٌ مؤكد، وقرئ: {عقُباً} بضم القاف وعُقْبى كرُجعى والكلُّ بمعنى العاقبة.
{واضرب لَهُم مَّثَلَ الحياة الدنيا} أي واذكر لهم ما يُشبهها في زَهْرتها ونَضارتها وسرعةِ زوالها لئلا يطمئنوا بها ولا يعكُفوا عليها ولا يَضرِبوا عن الآخرة صفحاً بالمرة، أو بيِّنْ لهم صفتَها العجيبة التي هي في الغرابة كالمثَل {كَمَاء} استئنافٌ لبيان المثَل أي هي كماء {أَنزَلْنَاهُ مِنَ السماء} ويجوز كونُه مفعولاً ثانياً لاضْربْ على أنه بمعنى صيّر {فاختلط بِهِ} اشتبك بسببه {نَبَاتُ الارض} فالتفّ وخالط بعضه بعضاً من كثرته وتكاثفه، أو نجَع الماءُ في النبات حتى روِيَ ورفّ، فمقتضى الظاهرِ حينئذ فاختلط بنبات الأرض، وإيثارُ ما عليه النظمُ الكريمُ عليه للمبالغة في الكثرة فإن كلاًّ من المختلِطَين موصوفٌ بصفة صاحبِه {فَأَصْبَحَ} ذلك النباتُ الملتفُّ إثرَ بهجتها ورفيفِها {هَشِيمًا} مهشوماً مكسوراً {تَذْرُوهُ الرياح} تفرّقه، وقرئ: {تُذْريه} من أذراه وتذروه الريحُ، وليس المشبَّهُ به نفسَ الماء بل هو الهيئةُ المنتزَعةُ من الجملة، وهي حالُ النبات المُنبَتِ بالماء، يكون أخضرَ وارفاً ثم هشيماً تطيِّره الرياحُ كأن لم يغْنَ بالأمس {وَكَانَ الله على كُلّ شَىْء} من الأشياء التي من جملتها الإنشاءُ والإفناءُ {مُّقْتَدِرًا} قادراً على الكمال.


{المال والبنون زِينَةُ الحياة الدنيا} بيانٌ لشأن ما كانوا يفتخِرون به من محسّنات الحياة الدنيا، كما قال الأخُ الكافرُ: أنا أكثرُ منك مالاً وأعزُّ نفراً إثرَ بيانِ شأن نفسها بما مر من المثَل. وتقديمُ المال على البنين مع كونهم أعزَّ منه كما في الآية المحكية آنفاً وقولِه تعالى: {وأمددناكم بأموال وَبَنِينَ} وغيرِ ذلك من الآيات الكريمة لعراقته فيما نيط به من الزينة والإمدادِ وغيرِ ذلك وعمومِه بالنسبة إلى الأفراد والأوقات، فإنه زينةٌ ومُمِدٌّ لكل أحد من الآباء والبنين في كل وقت وحين، وأما البنون فزينتُهم وإمدادُهم إنما يكون بالنسبة إلى من بلغ مبلغَ الأبوّة، ولأن المالَ مناطٌ لبقاء النفس والبنين لبقاء النوع، ولأن الحاجةَ إليه أمسُّ من الحاجة إليهم، ولأنه أقدرُ منهم في الوجود، ولأنه زينةٌ بدونهم من غير عكس فإن من له بنونَ بلا مال فهو في ضيقِ حالٍ ونكال. وإفرادُ الزينة مع أنها مسنَدةٌ إلى الإثنين لما أنها مصدرٌ في الأصل أطلق على المفعول مبالغةً كأنهما نفسُ الزينة، والمعنى أن ما يفتخرون به من المال والبنين شيءٌ يُتزيّن به في الحياة الدنيا وقد عُلم شأنُها في سرعة الزوالِ وقُربِ الاضمحلال فكيف بما هو من أوصافها التي شأنُها أن تزول قبل زوالِها. {والباقيات الصالحات} هي أعمالُ الخير، وقيل: هي الصلواتُ الخمسُ، وقيل: سبحان الله والحمدُ لله ولا إله إلا الله والله أكبرُ، وقيل: كلُّ ما أريد به وجهُ الله تعالى، وعلى كل تقدير يدخُل فيها أعمالُ فقراءِ المؤمنين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهَه دخولاً أولياً، أما صلاحُها فظاهرٌ وأما بقاءُ عوائدِها عند فناءِ كلِّ ما تطمح إليه النفسُ من حظوظ الدنيا {خَيْرٌ} أي مما نُعت شأنُه من المال والبنين، وإخراجُ بقاءِ تلك الأعمالِ وصلاحِها مُخرَجَ الصفات المفروغِ عنها مع أن حقَّهما أن يكونا مقصودَي الإفادةِ لا سيما في مقابلة إثباتِ الفناء لما يقابلها من المال والبنين على طريقة قوله تعالى: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ} للإيذان بأن بقاءَها أمرٌ محقّقٌ لا حاجة إلى بيانه بل لفظُ الباقياتِ اسمٌ لها وصفٌ، ولذلك لم يُذكر الموصوفُ وإنما الذي يُحتاج إلى التعرض له خيريتُها {عِندَ رَبّكَ} أي في الآخرة وهو بيانٌ لما يظهر فيه آثارُ خيريّتها بمنزلة إضافة الزينةِ إلى الحياة الدنيا لا لأفضليتها فيها من المال والبنين مع مشاركة الكلِّ في الأصل إذ لا مشاركةَ لهما في الخيرية في الآخرة {ثَوَاباً} عائدةً تعود إلى صاحبها {وَخَيْرٌ أَمَلاً} حيث ينال بها صاحبُها في الآخرة كلَّ ما كان يؤمله في الدنيا، وأما ما مر من المال والبنين فليس لصاحبه أملٌ يناله، وتكريرُ خيرٌ للإشعار باختلاف حيثيَّتي الخيرية والمبالغةِ فيها.


{وَيَوْمَ نُسَيّرُ الجبال} منصوبٌ بمضمر أي اذكرْ حين نقلَعُها من أماكنها ونسيّرها في الجو على هيئاتها كما ينبىء عنه قوله تعالى: {وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب} أو نسير أجزاءَها بعد أن نجعلها هباءً مُنْبَثّاً، والمرادُ بتذكيره تحذيرُ المشركين مما فيه من الدواهي، وقيل: هو معطوفٌ على ما قبله من قوله تعالى: {عِندَ رَبّكَ} أي الباقياتُ الصالحات خيرٌ عند الله ويومَ القيامة. وقرئ: {تُسيَّر} على صيغة البناء للمفعول من التفعيل جرياً على سنن الكِبرياءِ وإيذاناً بالاستغناء عن الإسناد إلى الفاعل لتعيُّنه، وقرئ: {تَسِير} {وَتَرَى الأرض} أي جميعَ جوانبها والخطابُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحدٍ ممن يتأتّى منه الرؤيةُ، وقرئ: {تُرَى} على صيغة البناء للمفعول {بَارِزَةً} أما بروزُ ما تحت الجبال فظاهرٌ، وأما ما عداه فكانت الجبالُ تحول بينه وبين الناظرِ قبل ذلك، فالآن أضحى قاعاً صفْصِفاً لا ترى فيها عِوَجاً أمْتاً {وحشرناهم} جمعناهم إلى الموقف من كل أَوْب. وإيثارُ صيغةِ الماضي بعد نسيّر وتَرى للدِلالة على تحقق الحشْرِ المتفرِّع على البعث الذي يُنكره المنكرون، وعليه يدورُ أمرُ الجزاءِ وكذا الكلام فيما عطف عليه منفياً وموجَباً، وقيل: هو للدَّلالة على أن حشْرهم قبل التسيير والبروزِ ليعاينوا تلك الأهوالَ، كأنه قيل: وحشرناهم قبل ذلك {فَلَمْ نُغَادِرْ} أي لم نترُك {مّنْهُمْ أَحَداً} يقال: غادره إذا تركه ومنه الغدْرُ الذي هو تركُ الوفاءِ والغديرُ الذي هو ماءٌ يتركه السيلُ في الأرض الغائرةِ، وقرئ بالياء وبالفوقانية على إسناد الفعل إلى ضمير الأرض كما في قوله تعالى: {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} {وَعُرِضُواْ على رَبّكَ} شُبّهت حالُهم بحال جندٍ عُرضوا على السلطان ليأمُر فيهم بما يأمُر، وفي الالتفات إلى الغَيبة وبناءِ الفعل للمفعول مع التعرض لعنوان الربوبية والإضافةِ إلى ضميره عليه السلام من تربية المهابةِ والجَرْي على سَنن الكبرياءِ وإظهار اللطفِ به عليه السلام ما لا يخفى {صَفَّا} أي غيرَ متفرِّقين ولا مختلِطين فلا تعرّض فيه لوَحدة الصفِّ وتعدّدِه، وقد ورد في الحديث الصحيح: «يجمع الله الأولين والآخِرين في صعيد واحد صُفوفاً» {لَّقَدْ جِئْتُمُونَا} على إضمار القولِ على وجه يكون حالاً من ضمير عُرضوا أي مقولاً لهم أو وقلنا لهم، وأما كونُه عاملاً في يومَ نسيّر كما قيل فبعيدٌ من جزالة التنزيل الجليلِ، كيف لا ويلزم منه أن هذا القولَ هو المقصودُ بالأصالة دون سائر القوارعِ مع أنه خاصُّ التعلق بما قبله من العَرض والحشر دون تسييرِ الجبال وبروزِ الأرض {كَمَا خلقناكم} نعتٌ لمصدر مقدّرٍ أي مجيئاً كائناً كمجيئكم عند خلْقِنا لكم {أَوَّلَ مَرَّةٍ} أو حال من ضمير جئتمونا أي كائنين كما خلقناكم أولَ مرة حُفاةً عُراة غُرْلاً أو ما معكم شيءٌ مما تفتخرون به من الأموال والأنصار كقوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى كَمَا خلقناكم أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خولناكم وَرَاء ظُهُورِكُمْ} {بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِدًا} إضرابٌ وانتقالٌ من كلام إلى كلام كِلاهما للتوبيخ والتقريعِ، أي زعمتم في الدنيا أنه لن نجعلَ لكم أبداً وقتاً نُنْجز فيه ما وعدناه من البعث وما يتبعه، وأنْ مخففةٌ من المثقلة فُصِل بحرف النفي بينها وبين خبرِها لكونه جملةً فعليةً متصرِّفةً غيرَ دعاءٍ، والظرفُ إما مفعولٌ ثانٍ للجعل وهو بمعنى التصييرِ والأولُ هو موعداً، أو حال من موعداً وهو بمعنى الخلق والإبداعِ.

4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11